13 - وصايا متنوعة

وثمت أمور عديدة تناولها النبي صلى الله عليه وسلم بالبيان في خطبه ومواعظه في حجة الوداع تمس حاجة الناس إليها في صلاحهم مع ربهم وفي صلاحهم مع أنفسهم ومع مَن يعاشرون، يضيق المقام عن تفصيلها، لكن أشير إلى طائفة منها على سبيل الإجمال.
فمما بينه صلى الله عليه وسلم في خطبه ومواعظه وتذكيره في حجته تأكيدُه على لزوم سنته واتباع هديه، وسلوك نهجه، والحذرِ من البدع والأهواء، ومن القول عليه بلا علم، أو تعمد الكذب عليه، ومفارقة هديه.
روى الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن مرة قال: سمعت مرة قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة فقال: ((أتدرون أيُّ يوم يومكم هذا...وذكر الحديث وفيه: ((ألا وإني فرطُكُم على الحوض أنظركم، وإني مكاثر بكم الأمم فلا تسودوا وجهي، ألا وقد رأيتموني وسمعتم مني، وستسألون عنّي، فمن كذب عليَّ فليتبوّأ مقعده من النار، ألا وإني مستنقِذٌ رجالاً أو ناساً ومستنقَذٌ مني آخرون، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)).
فهذا تحذير بالغ من البدع والأهواء والإحداث في الدين، وتحذير من الكذب عليه صلى الله عليه وسلم والقول عليه بلا علم فإنه من كبائر الذنوب، وعظائم الآثام الموجبة لدخول النار.
ومما بينه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع الحث على برِّ الوالدين، وصلة الأرحام، والتحذير من الاعتداء على حقوق الآخرين، أو النيل من أعراضهم واغتيابهم.
روى الطبراني في المعجم الكبير عن أسامة بن شَريك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقول: ((أمَّك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك)) قال: فجاء قوم فقالوا: يا رسول الله قَتَلَنا بنو يربوع؟ فقال: ((لا تجني نفسٌ على أخرى)) ثم سأله رجل نسي أن يرمي الجمار؟ قال: ((ارم ولا حرج)) ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله نسيت الطواف، فقال: ((طف ولا حرج)) ثم أتاه آخر حلق قبل أن يذبح، قال: ((اذبح ولا حرج)) قال: فما سألوه يومئذ عن شيء إلاّ قال: (( لا حرج ولا حرج)) ثم قال: ((أذهب الله عز وجل الحرج إلاّ رجل اقترض مسلماً فذلك الذي حرج وهلك)) وقال: (( ما أنزل الله عز وجل داءً إلاّ أنزل له دواءً إلاّ الهرم)) (1).
ومما بينه كذلك التحذير من الجناية على الآخرين وأن من يجني لا يرجع وبال جنايته من الإثم أو القصاص إلاّ إليه، وحذر من الشيطان وكيده وأنه لما رأى قوة التوحيد والإيمان يئس من وجود الشرك في المصلين، ولا يعني هذا اليأس انتفاء وجود الشرك، وأخبر أنه سيكون له أتباع يطيعونه فيما يدعوهم إليه، وحذر من الربا ومن الظلم.
روى ابن ماجه عن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: ((يا أيها الناس ألا أيُّ يوم أَحْرَمُ؟ ثلاث مرات، قالوا: يومَ الحج الأكبر، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا لا يجني جانٍ إلاّ على نفسه، ولا يجني والدٌ على ولده، ولا مولودٌ على والده، ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم، فيرضى بها، ألا وكل دم من دماء الجاهلية موضوع، وأول ما أضع منها دمُ الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل، ألا وإنَّ كلَّ رباً من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون، ألا يا أمَّتاه، هل بلّغت؟ ثلاث مرات، قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، ثلاث مرات)).
ومما بينه كذلك أنَّ الله قسم المواريث في كتابه وأعطى كلَّ إنسان نصيبه من الميراث، وأخبر أنَّ الولد للفراش أي لصاحب الفراش وأن العاهر له الحجر، وحذر من أن ينتسب الرجل إلى غير أبيه.
ففي المسند عن عمرو بن خارجة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى وهو على راحلته وهي تقصع بجرَّتها، ولُعابُها يسيل بين كتفيَّ، فقال: ((إنَّ الله قسم لكلِّ إنسان نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصيةٌ، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، ألا ومن ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه رغبةً عنهم فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)).
وبيّن أيضاً فيما بيّن قصر الدنيا وسرعة زوالها، وحذّر من الاغترار بها حيث قال للناس قبل غروب الشمس وهو واقف بعرفة: ((أيها الناس إنه لم يبق من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه)). رواه أحمد.
وحثّ الناس على السكينة والرفق وعدم التدافع، فعند الانطلاق من عرفة قال: ((يا أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار)) رواه النسائي. ولما تزاحم الناس عند الجمرات قال صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضاً، وإذا رميتم فارموا بمثل حصى الخذف)) رواه أحمد.
وحذر الأمة من فتنة الدجال وذكر صفته، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نتحدث عن حجة الوداع، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ولا ندري ما حجةُ الوداع، حتى حمد اللهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره، وقال: ((ما بعث الله من نبي إلاّ أنذره أمته؛ أنذره نوح والنبيون من بعده، وإنه يخرج فيكم، فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم، إن ربكم ليس بأعور، إنه أعور عين اليمنى كأنَّ عينه عنبة طافية)) الحديث(2).
إلى غير ذلك من الوصايا العظيمة، والعظات البالغة، والتوجيهات السديدة، نصحاً للأمة وبياناً للدين. فجزاه الله عن أمته خير الجزاء وأوفاه، وصلى الله عليه وملائكته والصالحون من عباده وسلم تسليماً كثيراً.

                                            * * * 

-------------
(1) عجم الكبير (رقم:484).
(2) ينظر فتح الباري لابن حجر (8/107).