خطب النبي صلى الله عليه وسلم في الحج والتأكيد على حرمة الدماء والأموال والأعراض

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على إمام المرسلين نبينا محمد وآله وصحبه :

إن موسم الحج موسم فاضل كريم يتربى فيه المؤمنون على كل فضيلة وخير ، ويتزود فيه المؤمنون بخير زاد ، والله جلَّ وعلا قد قال لعباده في أثناء آيات الحج : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } [البقرة:197]

ولهذا كان متأكداً على كل مؤمن أن يحرص على الاستفادة من مشاعر الحج وأعماله سواء مَنْ حجَّ أو لم يحج ، لأن الحج مدرسة إيمانية يتربى فيها المؤمنون على الأخلاق الفاضلة والعبادات الكاملة وحُسن التقرب إلى الله جلَّ وعلا والبعد عن مساخطه ومناهيه ؛ ولهذا أيضاً كان متأكداً على الدعاة إلى الله ومن يُعْنَون بالنصيحة لعباد الله أن ينتهزوا هذه الفرصة المباركة الثمينة لغرس الفضائل ونشر الآداب ودعوة الناس إلى الكمال بالإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول صلوات الله وسلامه عليه .

وقد حجَّ رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم الحجة المشهورة بحجة الوداع ، تلك الحجة العظيمة التي علّم النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أعمال الحج ومناسكه ، وفي الوقت نفسه قرَّر فيها قواعد الدين العظيمة وأصوله الكاملة وآدابه الكريمة وحذّر فيها من المحرمات والآثام ، ودعا فيها إلى لزوم تقوى الله جلَّ وعلا ، ولهذا جاءت السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عرفة ، وخطب الناس يوم النحر ، وخطب الناس في أوساط أيام التشريق ، وفي خطبه تلك كان يؤكد عليه الصلاة والسلام على لزوم الدين والتمسك به ، والتحلي بآدابه الفاضلة وأخلاقه الكريمة وآدابه العظيمة ، والتمسك بعقائده وشرائعه ، وقد جاء في هذا الباب أحاديث عظيمة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وكان من أعظم ما قرر النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه في حجة الوداع : الحذر من التعرض لدماء المسلمين أو أموالهم أو أعراضهم ، وقد أكد على ذلك صلوات الله وسلامه عليه غير مرة وبغير أسلوب ؛ ومن ذلك :

أنه جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عندما ذكر سياق حجة النبي عليه الصلاة والسلام قال : حَتَّى إِذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ : ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا )) [1] ، وفي اليوم الذي يلي يوم عرفة وهو يوم النحر خطب صلوات الله وسلامه عليه الناس خطبة عظيمة ، وقد جاء ذكر هذه الخطبة في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، وقال في خطبته يوم النحر : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ ، قَالَ فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ ، قَالَ فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ ، قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ؟)) [2] .

فانظر أيها المؤمن هذا التأكيد العظيم والاهتمام البالغ بهذا الأمر في يوم عرفة وفي يوم النحر : ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا))

وجاء في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((اسْتَنْصِتْ النَّاسَ )) - أي أطلب منهم أن ينصتوا وأن يصغوا - ثُمَّ قَالَ عليه الصلاة والسلام : ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)) [3] ؛ فأكَّد على هذه المسألة العظيمة ؛ وهي الحذر من دماء المسلمين والتعرض لرقابهم والاعتداء عليهم ؛ (( لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا )) ، وسمى صلوات الله وسلامه عليه هذا العمل كفراً كما في قوله في الحديث الآخر : (( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ )) [4] ، وهو ليس بالكفر الناقل من الملة إلا أنه عمل ليس من خصال الإيمان وليس من خلال أهل هذا الدين القويم ، وإنما هو من خصال الكفر وأعمال الكافرين ، ولهذا سماه صلوات الله وسلامه عليه كفراً فقال : ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)) ، وأكد على هذه القضية مرَّات وكرَّات ، ومن تأكيده عليها : ما جاء عنه في حجة الوداع من حديث فضالة بن عبيدٍ رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد وغيره قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ )) [5] .

وتأمل تحقيق الإيمان وتكميل الإسلام بأي شيء يكون ؟ وتأمل أيضاً في الوقت نفسه في حال من بسط يده في دماء المسلمين قتلاً وعدواناً وبغياً وظلما ؛ أين هو من تحقيق الإيمان ؟ وأين هو من تحقيق الإسلام الذي دعا إليه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ؟

ومن تأكيده على هذا الأمر في الحج : ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن سلمة بن قيسٍ الأشجعي رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (( أَلَا إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ )) أي خلال عظيمة وخصال خطيرة يجب على أمة الإسلام أن يحذروا منها ، وبدأ بهذا الأسلوب تنبيهاً للأمة وتأكيداً على خطر الأمر وعظم ضرره ، (( أَلَا إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ )) أي فاحذروها يا أمة الإسلام (( أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَلَا تَزْنُوا ، وَلَا تَسْرِقُوا )) [6] نصح أمته صلوات الله وسلامه عليه وبيّن في هذا الحديث العظيم هذه الكبائر العظام والآثام الجسام : الشرك بالله ، وقتل الأنفس المعصومة ، والاعتداء على الأعراض المصونة ، والاعتداء على الأموال المحترمة ، وحذّر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه أشد التحذير ، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام في هذا الباب في حجة الوداع وصايا عظيمة في التأكيد على هذا الأمر وبيان أهميته ولزوم مراعاته .

إن هذا الأمر العظيم والعناية به لابد فيه أولاً من صلاح القلب ؛ بأن يكون القلب يبتغي وجه الله ، وفي الوقت نفسه ناصحاً لولاة أمر المسلمين وعامتهم ، وفي الوقت نفسه كذلك لازماً لجماعتهم ؛ فإذا كان المرء بهذه الصفة تحققت فيه الخصال الكريمة والخلال العظيمة والآداب القويمة ، وكان بعيداً كل البعد عن الاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض ولعظم هذا المقام فقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فقد ثبت في الحديث عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى فَقَالَ : ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، وَالنَّصِيحَةُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تَكُونُ مِنْ وَرَائِهِمْ )) [7] .

وتأمل هذه الخصال الثلاثة العظيمة : الإخلاص لله ، والنصيحة لولاة الأمر ، ولزوم الجماعة ، وقد أخبر صلوات الله وسلامه عليه أن قلب المسلم لا يغل على هذه الخصال ؛ أي : لا يحمل غلاً وإنما يحمل صفاء ونقاء ، فهو في أعماله كلها يبتغي وجه الله سبحانه وتعالى ، لا يريد رياء ولا سمعة ، ولا يريد بها حطام الدنيا ، ثم هو ناصح لولاة أمر المسلمين ، ولازم لجماعتهم ، وحريص كل الحرص على ذلك ؛ بقلب طيّب ونفس مؤمنة ورجاء لعظيم موعود الله تبارك وتعالى .

ولما كان هذا المقام لا يتحقق – أعني استتباب الأمن وبقاء الدماء والأموال بدون أن تُنتهك وتُنال بأذى - يتطلب جماعة ويتطلب وحدة وصفاء بين أمة الإسلام - ولا جماعة للمسلمين إلا بإمام - نبّه النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع على أهمية السمع والطاعة لولاة الأمر ، وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أن ذلك من موجبات دخول الجنة ، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ : ((اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ ؛ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ )) [8] ؛ فذكر عليه الصلاة والسلام موجبات دخول الجنة وذكر منها : السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين ، وذلك أن أمر المسلمين ومصالحهم لا يمكن أن تنتظم إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمام ، ولا إمام إلا بسمع وطاعة ، ولهذا أكد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال : ((وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ)) لأن في ذلك مصلحة الأمة وتمام خيرها وحصول رفعتها وبقاء هيبتها وتحقق مصالحها ، أما إذا تفرق الناس شذر مذر وافتاتوا على ولاة أمرهم وخرجوا عن جماعة المسلمين تمزق صفهم وتخلخلت وحدتهم وحلَّ فيهم الضعف والوهن .

ومن تأكيده أيضاً على هذه الأمور في حجة الوداع : ما جاء في صحيح مسلم عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : سَمِعْتُ جَدَّتِي تُحَدِّثُ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقُولُ : (( وَلَوْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا )) [9] إذ إن انتظام أمر المسلمين لا يكون إلا بهذا ، وبدونه ما ثمَّ إلا الضياع والدمار .

ونسأل الله الكريم أن يوفقنا لاتباع هدي النبي الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولزوم نهجه والعمل بوصاياه الكريمة ونصائحه القويمة وإرشاداته السديدة ؛ فهو القدوة والأسوة صلوات الله وسلامه عليه ، والحمد لله أولاً وآخرا .

-------------------------
[1] صحيح مسلم (1218)
[2] صحيح البخاري (1739) من حديث ابن عباس ، صحيح مسلم (1679) من حديث أبي بكرة ، واللفظ للبخاري .
[3] صحيح البخاري (121).
[4] صحيح البخاري (48).
[5] مسند الإمام أحمد (22833) .
[6] مسند الإمام أحمد (18220) .
[7] مسند الإمام أحمد (16138) .
[8] سنن الترمذي (616).
[9] صحيح مسلم (1838).