خلق العــَــفــَــــــاف
العفاف كلمةٌ عظيمة ومطلبٌ جليل ؛ يطمع في نيله الشرفاء والفضلاء ، والكرماء والنزهاء ، ولا يرضى أحدٌ لنفسه ولا لذويه أن يُنسب إلى ضدِّه ونقيضه من فسقٍ أو فجورٍ أو خنًا أو فساد أو غير ذلك .
والله عزَّ وجل أمر عباده بالعفاف ، وأمر به نبيُه عليه الصلاة والسلام ، ويترتب على العفاف من الآثار والخيرات الغِزار في الدنيا والآخرة ما لا يحصيه إلا الله تعالى ، قال الله عز وجل : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [النور:33] ، واللام في قوله { وَلْيَسْتَعْفِفِ } لام الأمر ، والسين للطلب ؛ أي ليعمل كلُّ مسلم وليسْعَ لتحقيق العفاف والبعد عن نواقضه ونواقصه وخوارمه ، وليجاهد نفسه على ذلك ، والله معه مُعِيناً ومسدِّداً وحافظاً ومغْنيا . وفي جامع الترمذي بإسنادٍ جيد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ )) .
والعفاف زينة الشرفاء وحِلية الفضلاء وجمال الكرماء ؛ كرماءِ النفوس وكرماءِ الأخلاق ممن يعنيهم حفظُ كرامتهم وشرفهم وصيانةُ نزاهتهم وأدبهم ، وإذا تجمل الناس بأنواع الحلية تجمَّلوا هم بالأخلاق الرفيعة وتحقيق العفة والكرامة.
وعندما نتحدث عن العفاف نجِد العفاف بأروع صوره وأبهى حُلله في عظماء الناس وكرماء العباد ، ولنتأمل في هذا المقام قصةَ الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ؛ يوسف عليهم السلام ، فقد ضرب في العفاف أروع مثل ، وذلك عندما دعته امرأة العزيز لنفسها في قصةٍ جاءت في سورة يوسف في آيات عظيمة تُتلى من كلام الله تبارك وتعالى ، وقد تنوَّعت الدواعي والدوافع :
فكان عليه السلام شاباً ، والشباب مركب الشهوة .
وكان عزَباً ليس عنده ما يعوِّضه .
وكان غريباً ، والغربة مظِنَّة التهاون .
وكان جميلاً أعطي شطر الحُسن ، ومن كان كذلك يُرغب فيه ما لا يُرغب في غيره.
وكانت المرأة - امرأة العزيز- الداعية له :
ذاتَ منصبٍ وجمال .
وكانت في بيتها وسلطانها .
وغلَّقت الأبواب .
وتزيَّنت وتجملت وتعطَّرت .
وأتته بالرغبة والرهبة .
ومع هذه الدوافع كلها إلا أنه عليه السلام عفَّ لله ولم يُطعها وقال : { مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[يوسف:23 ] ، ولما تمالأت هي ونسوة المدينة على هذا الأمر وجاهَدْنه عليه قال : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ }[يوسف:33-35] ، وفعلاً سُجِن عليه السلام ولبث في السجن بضع سنين ؛ قيل : سبع سنوات ، وقيل : ثنتا عشرة سنة ، وقيل : أربع عشرة سنة ؛ مكثها عليه السلام في السجن لعفَّته ونزاهته ، وكم هم أولئك الذين دخلوا السجون لجرأتهم على هتْك الأعراض وانتهاك الحُــــرَم .
العفافُ يتفاوت أهله والمتصفون به في بواعثه وأسبابه ؛ وأعظم ذلك وأجلُّه أن يعَفَّ العبد حياءً من الله وخوفاً من سبحانه وتعظيماً لجنابه ، وهذا أعلى المقامات وأرفعها . ومن الناس من يعِفّ خوفاً من فوات نصيبه وأجره من الحور العِين يوم القيامة ؛ فإن من صرَف متعته في هذه الدنيا في الحرام حُرم من المتعة بحور العين في دار القرار . ومن الناس من يحمله على العفاف خوفُ العقوبة وخوف النار . ومنهم من يحمله على العفاف أمرٌ دون ذلك وهو خوف الفضيحة وخوف العار أو خوف الإصابة بالأسقام والأمراض ، فيكون نظره إلى أمر دنيوي ولا يكون نظره إلى أمرٍ أخروي ، فيتجنَّب الفاحشة والرذيلة خوفَ أسقامها وأمراضها وأضرارها ، إلى غير ذلك من البواعث والدوافع مما يتفاوت فيه أهل العفاف .
بينما آخرون من الهمَل لم يبالوا بذلك كله ولم يلتفتوا إلى شيء منه فوَلَغوا في الفاحشة وانغمسوا في الرذيلة غير آبهين ولا مبالين ، وهؤلاء وإن كان الواحد منهم يظفر بلذة إلا أنها لذةٌ فانية يعقُبها في الدنيا نكدٌ وغصص ، وفي الآخرة عقوبةٌ وحسرات ، وأما العفة فإنها لذةٌ لا تُقارن إطلاقا بلذة قضاء الوطر من الحرام . فما أجمل حياة أهل العفاف ، وما أجمل سمتهم ، وما أهنأهم بعفتهم .
ولننظر إلى صورةٍ مشرقة في العفاف ما أروعها وما أبهاها وما أجملها ؛ عروة ابن الزبير أحد الفقهاء السبعة عالِمُ المدينة - رحمه الله تعالى - بُترت قدمه اليسرى بسبب آكلةٍ أصابتها، وقالوا له عندما أرادوا بترها : أنأتي لك بمُـرْقِد - أي مسكِّن - فامتنع من ذلك ، وبتروا له قدمه ، نشروها بالمنشار دون أن يتحرك منه عضو أو أن يُسمَع منه تألم ، ثم نظر إلى قدمه في أيديهم وأخذها منهم وأمسكها بيده ونظر إليها وقال : " الحمد لله ، والذي حملني عليك إنه ليعلم أنني ما مشيتُ بكِ إلى حرام قط " ؛ لنتأمل هذه الحلاوة وهذا الحمد العظيم على نعمة العفاف!! . ولهذا نظائر وصور كثيرة يطول المقام بذكرها .
ومن الدعوات العظيمة الجليلة في هذا المقام ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في دعائه : ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى )).
ألا ما أحوجنا بل وما أمسَّ حاجتِنا أن نذكِّر أنفسنا بالعفاف وفضلِه ولاسيما في مثل هذا الزمن الذي انفتحت على الناس فيه أبوابٌ وشرورٌ متنوعات ؛ تسلب العقول ، وتأسِر النفوس ، وتُفسد القلوب ، وتجلب الشرور ، ولا عاصم من ذلك إلا الله ، وفي خضمِّ هذه الفتن المهلكات والدواهي المردِيات يجب على العبد أن يربأ بنفسه وأن يركب سفينة العفاف لينجوَ من الفتن المتلاطمات والأمواج المهلكات ملتجأً إلى رب الأرض والسماوات يطلبه جلَّ في علاه أن يكتب له النجاة وأن يحقِّق له العفاف ؛ وليكن مع نفسه متذكراً وقوفه بين يدي الله ، وأنَّ ربَّ العالمين سائله ، وأنَّ في يوم القيامة جزاءً وحسابا وجنةً ونارا ، وأنَّ ما يقوم به في هذه الحياة من عمل سيلقاه حاضراً يوم القيامة {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] .