2 - خطبة يوم عرفة
إن من خطب النبي صلى الله عليه وسلم في الحج خطبتَه يومِ عرفة، وذلك فيما رواه الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديثه الطويل الذي وصف فيه حجة النبي صلى الله عليه وسلم من خروجه من المدينة إلى أن رجع إليها، وهو حديث عظيم مشتمل على جملٍ من الفوائد، ونفائسَ من مهماتِ القواعد، وهو مخرج في صحيح الإمامِ مسلمٍ رحمه الله.
قال جابر رضي الله عنه في سياق هذا الحديث: ((حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فَرُحِلَتْ له، فأَتى بطنَ الوادي فخطب الناس وقال: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كلُّ شيءٍ من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماءُ الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضعُ من دمائنا دمُ ابنِ ربيعةَ بنِ الحارثِ كان مُسْتَرْضعاً في بني سعدٍ فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعُ ربانا، ربا عباسِ بنِ عبد المطلب، فإنه موضوع كلُّه، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنَّ بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فُرُشَكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرِّح، ولهن عليكم رزقهُنَّ وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتابَ الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) ثلاث مرات، ثم أَذّن، ثم أقام، فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر)).
وهي خطبة عظيمة تضمنت أصولاً عظيمةً، وقواعدَ جليلةً، وآداباً كريمة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في وصف هذه الخطبة وبيانِ مضامينها إجمالاً: ((فخطب الناسَ وهو على راحلته خطبةً عظيمة قرّر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية، وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت المللُ على تحريمها، وهي الدماء والأموال والأعراض، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كلَّه وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيراً، وذكر الحق الذي لهنَّ والذي عليهن، وأن الواجب لهن الرزقُ والكِسوةُ بالمعروف، ولم يقدِّر ذلك بتقدير، وأباح للأزواج ضربهن إذا أدخلن إلى بيوتهن من يكرهه أزواجُهن، وأوصى الأمة فيها بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه، واستنطقهم: بماذا يقولون وبماذا يشهدون، فقالوا: ((نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت))، فرفع أصبعه إلى السماء، واستشهد الله عليهم ثلاث مرات، وأمرهم أن يبلغ شاهدهم غائبهم)) (1). اهـ كلامه رحمه الله.
وقد تضمنت هذه الخطبةُ جملاً مهمة من أمور الدين وآدابه، وهي كما يلي ـ على ضوء ترتيبها في الحديث ـ:
الأولى: تحريم دماءِ المسلمين وأموالِهم، وأَكَّد ذلك عليه الصلاة والسلامُ تأكيداً بالغاً: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) وكلُّهم يدرك حرمة بلد الله الحرام، وتَضَاعُفَ هذه الحرمة في اليوم الحرام وفي الشهر الحرام. فحرمة دم المسلم وماله شديدة كحرمة بلد الله الحرام في اليوم الحرام وفي الشهر الحرام، فما أعظمها حرمة.
الثانية: وَضْعُ كلِّ شيء من أمر الجاهلية وإبطالُهُ: ((ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع، ودماءُ الجاهلية موضوعة، وإن أوّل دم أضع من دمائنا دمُ ابنِ ربيعةَ بنِ الحارثِ، كان مُسْتَرضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأوّل رباً أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كلُّه))، ففي هذه الجملة إبطالُ أفعال الجاهلية وبيوعها التي لم يتصل بها قبض، وأنه لا قصاص في قتلها، وقوله: ((تحت قدميّ موضوع)) إشارة إلى إبطاله. وقوله في الربا إنه موضوع كله، المراد بالوضع الرد والإبطال.
الثالثة:الوصية بالنساء والحثُّ على الإحسان إليهن: ((فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)). وهذه الجملة فيها مراعاة حق النساء، والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف، وقد جاء في هذا المعنى أحاديث كثيرة في الوصية بالنساء وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في ذلك.
الرابعة: الوصية بكتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله)) والقرآن كتاب هداية، جعله الله مرشداً للعباد إلى كل طريق نافع وسبيل قويم، يفرقون به بين الحق والباطل والهدى والضلال والخير والشر، فمن تمسك به هدي ومن اعتصم به لم يضل ومن اتبعه لا يشقى، وإنما اقتصر على الكتاب لأنه مشتمل على العمل بالسنة، فمن لم يعمل بالسنة لم يعمل بالكتاب، وكذلك في قوله: ((وأنتم تسألون عني)) دلالة على العمل بالسنة.
الخامسة: إخبارهم بأنهم مسؤولون عنه صلى الله عليه وسلم واستنطاقُهُم بماذا يجيبون ((وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات))، وقوله: ((وأنتم تسألون عني)) أي: عن تبليغي للرسالة، وقوله: ((فما أنتم قائلون)) أي: في حقي. وقولهم ((قد بلغت)) أي: الرسالة، ((وأديت)) أي: الأمانة، ((ونصحت)) أي: الأمة، وقوله ((اللهم اشهد)) أي: على عبادك بأنهم قد أقروا بأني قد بلغت، وكفى بك شهيداً.
-----------
(1) زاد المعاد (2/233).