1 - الحجُّ والإصلاح

إنَّ الحجَّ مدرسةٌ مباركةٌ لتهذيب النفوس وتزكية القلوب وتقوية الإيمان، فمن خلال هذا المنسَك العظيم والشعيرة المباركة يتلقَّى المسلمون الدروسَ العظيمة والعِبَر المؤثِّرة والفوائد الجليلة في العقيدة والعبادة والأخلاق، فهو بحقٍّ مدرسة تربويَّة إيمانيَّة يتخرَّج فيها المؤمنون المتَّقون، وينهل من معينها المبارك عبادُ الله الموفَّقون، يقول الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1).

ومنافع الحجِّ وفوائده لا يُمكن حصرُها، وعِبَرُه ودروسُه لا يُمكن عدُّها واستقصاؤها، فإنَّ قوله تعالى في الآية: ( مَنَافِعَ ) هو جمع منفعة، ونكَّرَ المنافعَ إشارةً إلى تعدُّدها وتنوُّعها وكثرتِها، وشهودُ هذه المنافع أمرٌ مقصودٌ في الحجِّ؛ إذ اللاَّم في قوله: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) لام التعليل، وهي متعلِّقةٌ بقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) أي: إن تؤذن فيهم بالحج يأتوك مشاةً وركباناً لأجل أن يشهدوا منافع الحجِّ، أي: يحضروها، والمراد بحضورهم المنافع حصولها لهم وانتفاعهم بها.

ولهذا فإنَّ من الحريِّ بكلِّ مَن وفَّقه اللهُ لهذه الطاعة ويَسَّر له أداء هذه العبادة أن يكون حريصاً غاية الحرص على تحصيل منافع الحجِّ والإفادةِ من عِبَره وعظاته، إضافة إلى ما يحصله في حجِّه من أجور عظيمة وثواب جزيل ومغفرة للذنوب وتكفير للسيِّئات، فقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَن حجَّ هذا البيتَ فلَم يرفُث ولم يفسُق رجع كيوم ولدته أمُّه )) رواه البخاري ومسلم(2) ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنَّه قال: (( تابعوا بين الحجِّ والعمرة، فإنَّهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد )) رواه النسائي(3).

وجديرٌ بمَن نال هذا الرِّبحَ وفاز بهذا المَغنم أن يعودَ إلى بلده بحال زاكية ونفس طيِّبة وحياة جديدة مليئة بالإيمان والتقوى، عامرة بالخير والصلاح والاستقامة والمحافظة على طاعة الله عزَّ وجلَّ.

وقد ذكر العلماءُ أنَّ هذا الصلاح والزكاءَ إن وُجدَا في العبد فهو من أمارات الرِّضا وعلامات القبول، فإنَّ مَن حَسُنت حالُه بعد الحجِّ بالتحوُّل من السيِّء إلى الحسن أو من الحَسن إلى الأحسن فإنَّ ذلك دليلٌ على حسن انتفاعه بحجِّه؛ إذ إنَّ من ثواب الحسنة الحسنةَ بعدها، كما قال الله عزَّ وجلَّ: { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }(4)، فمَن أحسن في حجِّه واجتهد في تَتميمه وتكميله، وابتعد عن نواقصه ومفسداته خرج منه بأحسن حال، وانقلب إلى أطيبِ مآل.

وقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( الحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلاَّ الجنَّة ))(5)، وما من ريب أنَّ كلَّ حاجٍّ يطمع ويؤمِّل أن يكون حجُّه مبروراً وسعيُه مشكوراً وعملُه صالحاً مقبولاً، والعلامةُ الواضحةُ لبرِّ الحجِّ وقبوله أن يكون المرءُ قد أدَّاه خالصاً لوجه الله، موافقاً لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ هذين شرطان لا قبول لأيِّ عمل من الأعمال إلاَّ بهما، وأن تكون حالُه بعد الحجِّ خيراً منها قبله.

فهاتان علامتان على القبول: علامةٌ تكون في أثناء الحجِّ وهي أن يأتي به صاحبُه خالصاً لوجه الله موافقاً لسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلامةٌ تكون بعد الحجِّ وهي صلاحُ حال الإنسان بعد الحجِّ بأن يزيد إقبالُه على الطاعات واجتنابُه للمعاصي والذنوب، وأن يبدأ حياةً طيبةً معمورةً بالخير والصلاح والاستقامة.

وينبغي التنبُّه هنا إلى أنَّ المسلمَ لا سبيل له إلى أن يجزم بقبول عمله مهما أجاد فيه وأحسن، قال الله تعالى في بيان حال المؤمنين الكُمَّل وشأنِهم فيما يتقرَّبون به إلى الله من طاعات: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }(6) أي: يعطون من أنفسهم ما أمروا به من عبادات من صلاة وزكاة وحج وصيام وغير ذلك، وهم خائفون عند عرض أعمالهم على الله وعند وقوفهم بين يدي الله من أن تكون أعمالُهم غيرَ منجيةٍ وطاعاتُهم غيرَ مقبولة.

روى الإمام أحمد في مسنده عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: (( قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }أهو الرَّجل يزني ويشرب الخمر؟ قال: لا يا بنت أبي بكر، أولا يا بنت الصديق، ولكنَّه الرََّّجل يصوم ويصلِّي ويتصدَّق وهو يخاف أن لا يُقبل منه )) (7).

قال الحسن البصري رحمه الله: (( إنَّ المؤمنَ جمع إحساناً وشفقةً، وإنَّ المنافقَ جمع إساءةً وأمناً )) (8).

وقد مضت السنَّة بين المؤمنين في قديم الزمان وحديثه أن يقول بعضُهم لبعض عقب هذه الطاعة: تقبَّل الله منَّا ومنكم، فالكلُّ يرجو القبول(9) ، وقد ذكر الله في القرآن الكريم أنَّ نبيَّه إبراهيم وابنَه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام كانا يدعوان بهذا الدعاء عند بنائهما للكعبة، قال الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(10)، فهما في عمل صالح جليل وهما يسألان الله أن يتقبَّل منهما، روى ابن أبي حاتم عن وُهيب بن الورد أنَّه قرأ هذه الآية ثم بكى، وقال: (( يا خليل الرحمن، ترفع قوائمَ بيت الرحمن وأنت مشفقٌ أن لا يقبل منك )) (11).

فإذا كان هذا شأنَ إمامِ الحنفاء وقدوةِ الموحِّدين فكيف الشأن بمَن دونه.

نسأل الله للجميع القبول والتوفيق والسداد، وأن يكتب لحُجَّاج بيت الله الحرام السلامةَ والعافيةَ، وأن يتقبَّل منَّا ومنهم صالح الأعمال، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل، إنَّه جوادٌ كريم.

                                                          * * *        

----------
(1) سورة الحج، الآية: 27.
(2) صحيح البخاري (1820)، وصحيح مسلم (1350).
(3) سنن النسائي (5/115)، وصححه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (2901).
(4) سورة الرحمن، الآية: 60.
(5) صحيح مسلم (1349).
(6) سورة المؤمنون، الآية: 60.
(7) المسند (25705).
(8) رواه ابن المبارك في الزهد (985).
(9) قال ابن بطة في كتاب الإبانة (2/873): (( ... وكذلك يقول من قدم من حجِّه بعد فراغه من حجِّه وعمرته وقضاء جميع مناسكه إذا سئل عن حجِّه إنَّما يقول: قد حججنا ما بقي غير القبول، وكذلك دعاء الناس لأنفسهم ودعاء بعضهم لبعض: اللَّهمَّ تقبَّل صومَنا وزكاتَنا، وبذلك يلقى الحاجُّ فيُقال له: قبل اللهُ حجَّك وزكى عملَك، وكذا يتلاقى الناس عند انقضاء شهر رمضان، فيقول بعضُهم لبعض: قبل الله منَّا ومنكم، بهذا مضت سنَّة المسلمين، وعليه جرت عادتهم، وأخذه خلفُهم عن سلفهم )).
(10) سورة البقرة، الآية: 127.
(11) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، كما في تفسير ابن كثير (1/254) طبعة الشعب.