19 - تَعْجِيلُ الْفَطُورِ وَتَأْخِيرُ السَّحُورِ

لقد تعددت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بتعجيل الفطور وتأخير السحور وتنوعت هذه النصوص في دلالتها على أهمية ذلك ؛ فتارة بالأمر به ، وتارة ببيان فضله وعظيم ثوابه ، وتارة ببيان بعض الحِكَم العظيمة المترتبة عليه، وتارة بالنهي عن تركه ، إلى غير ذلك من أنواع الدلالة ، ومن هذه النصوص : ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا ، وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ))(1) ، وجاء في سنن أبي داود والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَعَلَى تَمَرَاتٍ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ))(2) ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه ((كَانَ لَا يُصَلِّي الْمَغْرِبَ حَتَّى يُفْطِرَ ، وَلَوْ عَلَى شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ ))(3) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْإِفْطَارَ ))(4)، وقال: ((لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ ))(5)، وكان ((إِذَا أَفْطَرَ قَالَ ذَهَبَ الظَّمَأُ ، وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ))(6)، وقال صلى الله عليه وسلم : ((هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ يَعْنِي السَّحُورَ )) (7) ، وقال: ((عَلَيْكُمْ بِغَدَاءِ السُّحُورِ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَدَاءُ الْمُبَارَكُ))(8) ، وقال : ((السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ))(9)، وقال: ((إِنَّ السَّحُورَ بَرَكَةٌ أَعْطَاكُمُوهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا تَدَعُوهَا))(10)، وقال: ((تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجَرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ ))(11)، وقال: ((مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصُومَ فَلْيَتَسَحَّرْ بِشَيْءٍ))(12)، وقال صلى الله عليه وسلم : ((عَجَّلُوا الإِفْطَارَ، وَأَخَّرُوا السُّحُورَ ))(13)، وقال: ((بكّروا بالإفطار، وأخّروا السُّحور))(14) ، وقال: (( ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة))(15)، وقال: ((إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُعَجِّلَ إِفْطَارَنَا وَنُؤَخِّرَ سَحُورَنَا ، وَنَضَعَ أيمَانِنَا عَلَى شمائِلِنا فِي الصَّلاةِ))(16).

وهذه الأحاديث المتعددة والمتنوعة في الأمر بتعجيل الفطور وتأخير السحور تدل دلالة واضحة على أهمية هذا الأمر العظيم الذي غفل عنه كثير من الناس جهلاً بأهميته وبالحِكم العظيمة التي اشتمل عليها والآثار الحميدة التي تترتب عليه ، بل لو لم يكن في تعجيل الفطر وتأخير السحور إلا محض المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاستجابة لأمره وكونه عبادة عظيمة يتقرب فيها إلى الله سبحانه لكفى به سبباً في المحافظة عليه وعدم إهماله ، فإن محبة الله إنما تنال بذلك كما قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، وقد ثبت في سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا))(17) ، وذلك لحُسن متابعتهم وسرعة استجابتهم .

ثمّ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن أكلة السحور أنها أكلة مباركة وأن السحور غداء مبارك وأن فيه بركة ، وهذا فيه دلالة واضحة على عظيم قدر هذه الطاعة ، فالبركة تكتنفها من كل جوانبها ؛ بركة في الطعام، وبركة في الفعل نفسه، وبركة في الوقت ، فحريّ بالصائم أن يتحرى هذه البركة بأن يتسحر ويؤخر السحور ولو على شربة ماء إن لم يجد شيئاً يطعمه سواها .

والبركة : هي تنزل الخير الإلهي على الشيء ، وزيادته ، وعموم نفعه ، وزيادة الأجر والثواب فيه ، فما أعظم السحور وأجلّ قدره !! ومع ذلك يتغافل عنه كثير من الناس ؛ إما جهلاً بفضله ومكانته ، أو إيثاراً للآجل على الآجل ، فيفضل النوم عليه وغالباً ما يكون سبب ذلك السهر ، والمصيبة في ذلك تعظم إن كان في أمرٍ محرَّم نسأل الله العافية والسلامة.

ثم إن وقت السحر من أفضل الأوقات وأوفرها بركة ؛ أثنى الله على المستغفرين فيه ، وهو وقت نزول الرب إلى سماء الدنيا ليغفر للمستغفرين ويجيب الداعين ويعطي السائلين ويثيب العابدين بأفضل الجزاء في الدنيا ويوم الدين، فكيف يحرم الإنسان نفسه من هذا الخير في هذا الشهر العظيم شهر الطاعة والاستغفار وشهر العتق من النار!! . والله وملائكته يصلَّون على المتسحرين وصلاة الله : ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى ، وصلاة الملائكة : دعاؤهم للعبد ، فما أجله من شرف وفضل يناله المتسحرون .

وفي المحافظة على تعجيل الفطور وتأخير السحور محافظة على الخيرية في الناس فإنه من أسبابها ، إضافة إلى ما فيه من تقوية الجسد وتنشيطه وطرد الضعف والكسل عنه فترة الصيام . وجاء في بعض النصوص تصريحٌ بحكمةٍ عظيمة من حِكَم تعجيل الفطور وتأخير السحور وتنبيه على أمر ينبغي المحافظة عليه أبداً حتى يكون هذا الدين ظاهراً وحتى تظل هذه الأمة محافظة على خيريتها ألا وهو : مخالفة أهل الكتاب من اليهود والنصارى قال صلى الله عليه وسلم : ((فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ ))(18)، وقال صلى الله عليه وسلم : ((لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ فَإِنَّ الْيَهُودَ يُؤَخِّرُونَ))(19)، وقال صلى الله عليه وسلم : ((لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرَ ، لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ))(20) ، فإذا أوصى الشارع بمخالفة اليهود النصارى في هذا الأمر والذي قد يعده بعض الناس هيِّناً ، فما بالك بالأمور العظام التي بلي كثير من الناس فيها بالتشبه بهم والسير على منهجهم ومنوالهم كمشابهتهم في لباسهم وعاداتهم والافتخار بمحاكاتهم حتى في كلامهم ومأكلهم وشرابهم والفرح والتلذذ بالنظر إلى قبائحهم من كلام ساقط وعقائد فاسدة وصور خليعة فاضحة ، ولا شك أن المشابهة الظاهرة تولد توافقاً وميلاً قلبياً في الباطن والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة:51]، وأكثر الناس تأثراً في هذا التشبه الشبابُ والنساءُ ؛ ألا فلينتبه الصائمون وليعتبروا بهذا الشهر العظيم وليصْدُقوا مع الله ويعقدوا العزم على ترك هذا التشبَّه بأهل الكتاب فإن ذلك يضر بالفرد وبالمجتمع وبالأمة جمعاء ويؤثر على الدين كله .

قال شيخ الإسلام في كلامٍ له عن هذا الحديث : ((وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى ، وإذا كان مخالفتهم سبباً لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله ، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة ))(21) .

اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ، ووفِّقنا لاتباع شرعك ، وأعذنا من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء .

 *****

 

 ---------------

(1) البخاري (1954)، ومسلم (1100) واللفظ للبخاري .

(2) رواه أبو داود (2356)، والترمذي (696)، واللفظ لأبي داود .

(3) رواه الحاكم في المستدرك (1577) .

(4) رواه الإمام أحمد في المسند (21209، 21399).

(5) رواه البخاري (1957) ، ومسلم (1098) .

(6) رواه أبو داود (2357)، والحاكم (1536) .

(7) رواه النسائي (2167) .

(8)رواه النسائي (2166) ، والإمام أحمد (17126) .

(9) رواه الإمام أحمد (11334) .

(10)رواه الإمام أحمد في المسند (23036) .

(11) رواه ابن حبان (3476) .

(12) رواه الإمام أحمد في المسند (14991) .

(13) رواه الطبراني في المعجم الكبير (21513) .

(14) الكامل لابن عدي (6/323)، السلسلة الصحيحة (1773)، صحيح الجامع (2835).

(15) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2/105) وعزاه للطبراني في الكبير .

(16) رواه الطيالسي (2654) ، والطبراني في المعجم الكبير (11323)، وابن حبان (1770) واللفظ للطيالسي.

(17) الترمذي (700) .

(18) رواه مسلم (1096).

(19) رواه ابن ماجه (1698) .

(20) رواه أبو داود (2353) ، والحاكم (1573) .

(21) اقتضاء الصراط المستقيم (1/209).